عبدالرحيم دقلو- اعترافات بتقويض الديمقراطية وإشعال الحرب الأهلية في السودان

المؤلف: ركابي حسن يعقوب09.08.2025
عبدالرحيم دقلو- اعترافات بتقويض الديمقراطية وإشعال الحرب الأهلية في السودان

في خطاب متوجهًا إلى جنوده، وخلال ظهوره العلني الثاني هذا الشهر، ألقى عبدالرحيم دقلو، الرجل الثاني في قيادة قوات الدعم السريع وشقيق القائد الغامض حميدتي، كلمة عفوية اتسمت بالحماس المفرط، والتوتر الواضح، والتردد الجلي، جمعت بين الوعود والتهديدات، وازدحمت بالتناقضات الظاهرة، وتذبذبت بين التهويل والتقليل من شأن الأحداث.

هذا الحديث الارتجالي الذي ألقاه نائب قائد مليشيا الدعم السريع في ثاني أيام عيد الفطر المبارك، تناول مسائل متنوعة وشاملة، تدور جميعها حول مسار المعارك الدائرة، ومواقف قوات الدعم السريع، وخططهم وتوجهاتهم المستقبلية.

أفاد عبدالرحيم دقلو في خطابه بأن قواته "لم تنته بعد"، مؤكدًا بقوة أن لديهم "مليون جندي" على أهبة الاستعداد لمواصلة القتال.

لكن العديد من المحللين يرون في هذا التصريح مبالغة لا تستند إلى الواقع، وذلك بالنظر إلى الخسائر المتتالية التي تكبدتها مليشيا الدعم السريع على نحو مستمر طيلة أربعة أشهر في مختلف جبهات القتال، بدءًا من ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض وكردفان، وصولًا إلى العاصمة الخرطوم، التي اكتمل تطهيرها من سيطرة الدعم السريع بدخول الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه إلى آخر وأهم معاقل الدعم السريع في منطقة "الصالحة" جنوب غربي أم درمان، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، الأمر الذي يزيد من الشكوك حول ادعاءات نائب قائد المليشيا بوجود مليون مقاتل!

الجزء الأكثر أهمية في خطاب القائد الثاني لقوات الدعم السريع والذي لفت انتباه وسائل الإعلام والجمهور في السودان، هو كشفه النقاب عن مسألتين محوريتين كانتا محط جدل واسع منذ اندلاع الحرب وحتى وقت قريب.

المسألة الأولى والأكثر أهمية، هي اعتراف القائد الثاني للمليشيا بأنه كان ينبغي عليهم منذ بداية الحرب التوجه نحو الولاية الشمالية ونهر النيل، معتبرًا أن هذا هو المسار الصحيح، وأنهم ارتكبوا خطأ فادحًا ببدء هجومهم على العاصمة الخرطوم، التي وصفها بأنها كانت الوجهة الخاطئة. وأضاف مهددًا بأن وجهتهم القادمة ستكون ولايتي نهر النيل والشمالية، وهذا ما يمثل المسألة الثانية.

هذا التصريح يحمل في طياته أخطر قضيتين تتعلقان بالحرب التي على وشك أن تدخل عامها الثالث، والتي أدت إلى دمار هائل، وخلفت عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من الجرحى والمعاقين، وملايين النازحين واللاجئين، وآلاف المفقودين.

لقد قدم القائد الثاني لقوات الدعم السريع إقرارًا صريحًا وواضحًا بأن مليشيا الدعم السريع هي من أشعل فتيل الحرب، وبهذا الاعتراف الصريح -والاعتراف سيد الأدلة- يكون القائد الفعلي للمليشيا قد حسم الجدل المحتدم حول الجهة التي بدأت الحرب، الجيش أم المليشيا. وبهذا الإقرار يكون دقلو قد نسف الرواية التي كانت تروج لها المليشيا وجناحها السياسي باستمرار في مختلف المحافل، والتي كسبت من خلالها تعاطف العديد من الأطراف إقليميًا ودوليًا، والتي مفادها أن الجيش هو من اعتدى عليها وأطلق الرصاصة الأولى.

وبذلك تكون هذه الجدلية قد انتهت، وأصبح من الواضح والجلي أن مليشيا الدعم السريع هي التي أوقدت نار الحرب في السودان بهدف الاستيلاء على السلطة بالقوة، وتقديم نفسها بديلًا للجيش والإحلال محله، بالتعاون مع "قوى الحرية والتغيير" التي ظهرت بأسماء مختلفة، آخرها (تأسيس)، والتي تمثل الذراع السياسي المدني لمليشيا الدعم السريع.

هذا الاعتراف سيكون له تداعيات كبيرة، نظرًا لما سيترتب عليه من آثار قانونية وسياسية ذات أهمية بالغة، يمكن للحكومة السودانية أن تستفيد منها بإضافتها إلى الملف القانوني الذي تعمل على إعداده لمواجهة المليشيا وجناحها السياسي والقوى الإقليمية الداعمة لها. وقد نجحت الحكومة السودانية في تقديم هذا الملف إلى الأجهزة العدلية الأممية المختصة، وتتابعه باهتمام بالغ، وقد وصفته دوائر عدلية دولية متخصصة بأنه ملف متكامل وقادر على تحقيق أحكام لصالح السودان.

أما المسألة الثانية المرتبطة بهذا الاعتراف من قبل القائد الثاني للمليشيا، فهي ذات بعدين؛ سياسي واجتماعي. البعد السياسي يتمثل في نسف الرواية التي قامت عليها المليشيا وجناحها السياسي، والتي تدعي أنها تقاتل من أجل "تحقيق الديمقراطية والحكم المدني والقضاء على الإسلاميين". فقول القائد الثاني للمليشيا بأنهم أخطأوا الوجهة في البداية، وبأنه كان من المفترض أن يهاجموا الولاية الشمالية، وتأكيده على أن وجهتهم القادمة ستكون ولايتي نهر النيل والشمالية، هو قول لا يمت بصلة إلى الهدف المعلن المتمثل في تحقيق الديمقراطية والحكم المدني.

أما البعد الاجتماعي، فقد كشف هذا التصريح عن نزعة عنصرية وجهوية وانتقامية لدى المليشيا، نزعة لا تؤمن بالتعايش والتسامح والتصالح بين المكونات العرقية والفئات والجهات التي يتكون منها المجتمع السوداني، والتي كانت وما زالت في حالة من التعايش والتلاحم والاندماج الفريد.

وهذا يعني أن المليشيا وجناحها السياسي يعتزمون نقل الصراع من المجال السياسي إلى مربع آخر لم يعرفه تاريخ السودان الحديث من قبل، ألا وهو مربع الحرب الأهلية.

وبهذا التوجه الجديد الذي أعلنته المليشيا، والذي صاحبه صمت من قبل جناحها السياسي، فإنهم بذلك يوجهون ضربة قاصمة لأنفسهم؛ لأنه بهذا الإعلان تكون المليشيا قد فرضت على نفسها عزلة مجتمعية تامة، وفي المقابل سيزداد تماسك بقية مكونات المجتمع السوداني بأطيافه المختلفة، بما في ذلك الفئات المجتمعية الوطنية داخل الحاضنة المجتمعية للمليشيا نفسها، والتي تؤمن بوحدة النسيج المجتمعي السوداني في جميع أقاليمه.

لقد منيت المليشيا بهزيمة عسكرية على الأرض، بفقدانها لمواقع سيطرتها تباعًا، وما تبقى في حوزتها سيؤول إلى ما آلت إليه تلك المواقع، ويؤكد خبراء عسكريون أن ذلك مسألة وقت لا أكثر.

كما خسرت المليشيا وجناحها السياسي سياسيًا واجتماعيًا بسبب توجهها العنصري الانتقامي الذي كشف عنه قائدها الفعلي عبدالرحيم دقلو.

لقد سطرت المليشيا نهايتها بيدها، ووضعت خاتمة مأساوية لقصتها لم يكن لأشد أعدائها أن يضعها بمثل ما وضعتها هي لنفسها.

إنها قصة رجل -ستُسجل في صفحات التاريخ- أراد أن ينتقل بالقوة من موقع الرجل الثاني في الدولة مدفوعًا بجنون العظمة وحب السلطة إلى موقع الرجل الأول، فانتهى به المطاف إلى المجهول، وكلفت هذه الشهوة شعبًا بأكمله ثمنًا باهظًا، ورغم ذلك لم يحقق هدفه المنشود، بل فقد منصبه الثاني ولم يبلغ الأول.

إنه مزيج مأساوي من الغرور والتهور السياسي وضآلة الفكر وقلة الخبرة، اجتمعت كلها في عقول من كتبوا فصول هذه القصة المأساوية، وأرادوا أن يكونوا أبطالها، فانقلب السحر على الساحر، وارتدت السهام إلى رماةها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة